قبل 44 عاما ومع مطلع مايو/أيار 1964 نجح المرحوم القائد الفلسطيني أحمد الشقيري، بحضور الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال في عقد أعمال المجلس الوطني الفلسطيني الأول في دورة اجتماعاته التي عقدت داخل القاعة الرئيسية في فندق إنتركونتننتال بمدينة القدس بعد تحضيرات واسعة وخطوات تمهيدية بدعم كامل من الرئيس عبد الناصر.
"
تركيبة المنظمة بقيت تراوح مكانها دون تطوير صيغتها الائتلافية، ما جعل طريقة "المحاصة" المتخلفة اللاديمقراطية، أو ما يعرف في الساحة الفلسطينية بالكوتة تطغى على تركيبة مؤسساتها وبنائها
"
وقد حضر هذا المؤتمر أكثر من مائتي عضو يمثلون التجمعات الرئيسية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة والشتات، وتم فيه إعلان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ككيان سياسي يمثل الشعب الفلسطيني ويحمل طموحاته وتطلعاته الوطنية.
المؤتمر الذي تحول إلى البرلمان الموحد لكل الشعب الفلسطيني، شكل بحضوره الواسع الاجتماع الفلسطيني الأول لممثلي ومندوبي كل تجمعات ومواقع الفلسطينيين بعد أن انهارت وأجهضت عربيا تجربة حكومة عموم فلسطين التي أعلن عن قيامها في أكتوبر/تشرين الأول 1948 بقطاع غزة على يد مفتي فلسطين المرحوم الحاج أمين الحسيني وأحمد حلمي عبد الباقي.
فكان انعقاد الدورة الأولى للمجلس التأسيسي بمثابة المدماك الأول على طريق إعادة بناء وبعث الكيان الوطني الموحد لعموم الشعب الفلسطيني بعد حالة الانهيار والتبديد والاقتلاع الوطني التي تعرض لها الشعب الفلسطيني بعد نكبة 1948.
خطوة ترافقها خبايا وخفايا
فكان قيام منظمة التحرير في إطار الرسمية العربية وبترحيب منها آنذاك، يمثل الحد الأدنى من واقع الاستجابة المباشرة والعملية لحالة قائمة ونامية في الوضع الفلسطيني بعيد النكبة، حيث كانت التطورات والتفاعلات داخل فلسطين في مناطق الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وحتى داخل المناطق المحتلة عام 1948، وعموم مواقع اللجوء الفلسطيني، تؤشر على مجموعة من الحقائق الحسية التي تنذر بالمخاض، والمخاض العسير لولادة حاضنة وطنية في سياق إعادة التأسيس لقيام المشروع الوطني التحرري للشعب الفلسطيني.
وفي هذا المسار من نشوء منظمة التحرير الفلسطينية، وقعت تحولات إضافية في الواقع الفلسطيني بعيد تأسيس المنظمة بقليل، وتمثلت تلك التحولات بانطلاقة الفصائل الفدائية الفلسطينية، وأهمها: حركة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الدكتور جورج حبش، ومنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية (منظمة الصاعقة) بقيادة الضابط البعثي في الجيش الأردني ضافي الجمعاني، وجبهة التحرير الفلسطينية التي حملت لاحقا اسم الجبهة الشعبية القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل.
فأملت التطورات المذكورة بشكل أو بآخر على المؤسس التاريخي لمنظمة التحرير أحمد الشقيري الانتقال بالمنظمة من تحت سقف الإطار الرسمي للنظام العربي لصالح إدماج وإدخال القوى الفلسطينية إلى عضوية منظمة التحرير أثناء الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في العاصمة الأردنية في فبراير/شباط 1968، وتشكيل ائتلاف منظمة التحرير وفق سيبة ثلاثية قامت أولا على ائتلاف حركة فتح والجبهة الشعبية ومنظمة الصاعقة ومن ثم مع مشاركة الجبهة الشعبية القيادة العامة، مع تتالي انضواء باقي القوى إلى صفوف المنظمة بعد عام 1970.
وغادر أحمد الشقيري موقعه الأول مسلما الراية للفصائل الفدائية في خطوة رافقها العديد من الخبايا والخفايا التي تحتاج لنقاش آخر.
وبالتأكيد، فإن نظرة موضوعية ومتفحصة تشي بأن مسار ومسيرة منظمة التحرير لم يكن على نسق متكامل من النهج والبرنامج، والاشتقاقات، ومن الرؤية والتكتيك منذ تأسيسها، فانتقلت المنظمة عبر مسيرتها من مفترق إلى آخر.
وتم ذلك بالتداخل مع تشابكات الحالة العربية والإقليمية، والتداعيات السلبية التي رافقتها، وما فرضته من انتكاسات وأخطاء وخطايا، كان بعضها في لحظات معينة أخطاء قاتلة أصابت المشروع الوطني الفلسطيني في الصميم.
ومن ذلك طريقة الاستعمال التي وضعت فيها المنظمة بعد عام 1974، خصوصا مع استفراد حركة فتح بصياغة سياسات المنظمة بعيدا عن الائتلاف الجبهوي العريض الذي تشكلت منه المنظمة أساسا، وصولا إلى الحال الراهن الذي أصبحت فيه المنظمة مجرد واجهة، يتم اللجوء إليها عند الطلب والحاجة فقط.
سيبة ثلاثية
وفي هذا السياق، فان تركيبة المنظمة بقيت تراوح مكانها دون تطوير صيغتها الائتلافية، مما جعل طريقة "المحاصة" المتخلفة اللاديمقراطية، أو ما يعرف في الساحة الفلسطينية بـ(الكوتا) تطغى على تركيبة وبناء مؤسساتها، إذ أزيحت مسألة انتخاب اللجنة التنفيذية مباشرة من قبل المجلس الوطني لصالح التوافق وفق الكوتا الفصائلية، وتمت الاستعاضة عن الانتخابات المباشرة لعضوية المجلس الوطني من خلال مبدأ التعيين وفق الحصص المحددة لكل طرف فصائلي.
فبات منطق الكوتا هو السائد عمليا في تحديد عضوية المجلسين الوطني والمركزي، إضافة إلى اللجنة التنفيذية واختيار أعضائها، وذلك منذ الدورة الرابعة للمجلس الوطني التي عقدت في فبراير/شباط 1968، إثر تسلم الفصائل الفدائية لقيادة المنظمة من مؤسسها الراحل أحمد الشقيري.
وعليه غالبا ما تمت عملية الكوتا على أساس التوافق والتراضي بين جميع الفصائل، مع الاتفاق على عدد من المستقلين الذين كانوا أغلب الأحيان من الموالين أو المقربين من حركة فتح.
"
تحولت المنظمة وهيئتها القيادية الأولى المسماة باللجنة التنفيذية إلى مجرد أداة ووسيلة يتم استحضارها عند الضرورة فقط لتمرير قرارات غير مشروعة ولا تستجيب لرغبة وأماني الشارع الفلسطيني
"
ولولا منطق الكوتا لما كان بالإمكان وصول أي ممثل أو مندوب لبعض الفصائل إلى عضوية اللجنة التنفيذية، في إطار منظمة التحرير أو أي من مؤسساتها كالمجلس الوطني والمجلس المركزي.
والأدهى أن ترافق أسلوب الكوتا والمحاصة مع الإغراق المتواصل لعضوية المجلس الوطني من دورة إلى دورة تالية بعشرات الأعضاء ليصبح تعداد المجلس الوطني بحدود ثمانمائة عضو.
فمثلا الدورة الحادية والعشرون للمجلس الوطني عقدت في قطاع غزة بتاريخ 25/4/1996 بمقاطعة أغلبية القوى وعدد كبير من أعضائه بعد أن تم إغراق هذا المجلس بأكثر من ثلاثمائة عضو جديد لضمان تمرير قرارات تعديل بعض بنود الميثاق الوطني آنذاك.
أداة توظيف سياسي
في هذا السياق، إن من المؤلم أن تترافق ذكرى تأسيس المنظمة والذكرى الستين للنكبة مع استمرار حالة الانقسام الكبير في الساحة الفلسطينية، وأن تتواصل معها عملية تهميش منظمة التحرير الفلسطينية مع دخولها عامها الخامس والأربعين، إذ تم إضعاف مرجعية منظمة التحرير لصالح مؤسسات السلطة، حين تم خلط السلطة الفلسطينية مع قيادة منظمة التحرير.
وقد انتزعت من المنظمة صلاحيات التمثيل الخارجي وجيش التحرير الفلسطيني، والصندوق القومي الفلسطيني، وحلت الوزارات المختلفة محل دوائرها جميعها، عدا دائرتي اللاجئين والعلاقات القومية اللتين أبقيتا على قيد الحياة حياء ولكن من لون واحد، ودون نشاط ولا عمل بفعل التقطير المالي غير البريء.
كما أفُرغت دوائرها من محتواها تفريغا كاملا، وأصبحت المنظمة أداة توظيف سياسي بالادعاء أنها مرجعية السلطة، بينما في الواقع هي مجرد هيكل عظمي لا حول لها ولا قوة، لا تملك برنامجا فعليا ولا ميثاقا ولا هيكلية ولا مالا, فالمرجعية لم تُُراجع إلا لتمرير ما تريده السلطة الوطنية كأمر واقع والاتكاء عليها وعلى تمثيلها على المستوى العربي والدولي.
وتحولت المنظمة وهيئتها القيادية الأولى المسماة باللجنة التنفيذية إلى مجرد أداة ووسيلة يتم استحضارها عند الضرورة فقط، لتمرير قرارات غير مشروعة ولا تستجيب لرغبة وأماني الشارع الفلسطيني، قرارات جائرة تأتي في سياق اختلال حالة التفاوض بين الطرفين الفلسطيني الرسمي والإسرائيلي المسنود بقوة وحضور وتأثير الولايات المتحدة الأميركية وسطوتها.
فأين أصبحت المنظمة، وأين أصبحت لجنتها التنفيذية المسؤولة عن قيادة الشعب الفلسطيني؟
إن حالة التهميش، والتفكك التي تعاني منها منظمة التحرير وكافة مؤسساتها منذ عام 1993 عقب توقيع اتفاق أوسلو الأول لإعلان المبادئ، وتحولها إلى منظمة شكلية، وإغراق المجلس الوطني بأكثر من ثمانمائة عضو ليصبح أكبر برلمان في العالم لشعب لا يتجاوز تعداده عشرة ملايين نسمة، فضلا عن تعويم المجلس المركزي للمنظمة وهو الهيئة الاستشارية الوسيطة بين اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني، جعل من هيئات منظمة التحرير هيئات شكلية، لا دور حقيقيا لها في صياغة السياسة العامة للمنظمة.
فتراجع الإطار الائتلافي المشترك في القيادة الفلسطينية ساعد على إضعاف العملية الائتلافية، فغدت منظمة التحرير مرجعية لا تراجع يتم استحضارها عند الطلب فقط لتمرير قرارات ما باسم الشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق، تم التحايل على موضوع شرعية اجتماعات اللجنة التنفيذية، التي تتم دون تواتر نظامي مع غياب الاجتماعات الدورية المحددة وفق النظام الأساسي، وتجاوز أنظمتها ولوائح عملها بشكل مستمر.
كما كان الحال في إجراء إضافات غير دستورية لعضويتها، مثلا: إضافة صالح رأفت بصفة مراقب عن حزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني بعد مغادرة ياسر عبد ربه الحزب المذكور، كما في إضافة حنا عميره عن حزب الشعب الفلسطيني بدلا من المرحوم سليمان النجاب بعد وفاته.
"
إعادة تأسيس وبناء المنظمة وكل مؤسساتها وكذلك برنامجها الائتلافي من جديد، يتطلب بالضرورة استيعاب المتغيرات الفلسطينية الداخلية وانضواء حركتي حماس والجهاد في أطرها ومؤسساتها وفقا لحضورهما وتأثيرهما ووزنهما
"
أما اجتماعات اللجنة التنفيذية التي تمثل أعلى هيئة قيادية في المنظمة، وهي المسؤولة عن تنفيذ السياسات العامة التي يقرها ويصادق عليها المجلس الوطني الفلسطيني باعتباره يمثل برلمان الشعب الفلسطيني، فغالبا ما تتم للموافقة على ما يطرحه رئيسها، ولتمرير الاتفاقات والمعاهدات المختلفة، أو تمرير قرارات أو استحقاقات معينة لإسباغ صفة الشرعية عليها باسم منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.
والجدير بالذكر أن اللجنة التنفيذية التي حدد عدد أعضائها بـ18 عضوا كما هو معمول به وفق النظام الأساسي، قد طرأ تغيير ملحوظ ومصطنع على عضويتها من حيث العدد في الدورة الأخيرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت عام 1996 في قطاع غزة، عندما تم رفع العدد إلى عشرين حين اعتبر مقعد كل من منظمة الصاعقة والجبهة الشعبية القيادة العامة شاغرا.
وبذا فإن عدد أعضاء اللجنة التنفيذية الحالية يبلغ عشرين عضوا، أصبح تسعة أعضاء منهم ما بين متوفى ومقاطع ومستقيل هم: فيصل الحسيني (متوفى) وياسر عرفات (متوفى)، وسليمان نجاب (متوفى)، وياسر عمرو (متوفى)، وأميل جرجوعي (متوفى)، وأسعد عبد الرحمن (مستقيل)، وفاروق القدومي الذي لا يحضر جلساتها لأنها تعقد في الداخل، وطلال ناجي (مقاطع)، ومحمد خليفة (مقاطع).
أي أن أكثر من ثلث أعضائها متوفون ومستقيلون ومقاطعون، وهو ما يسبغ على قراراتها واجتماعاتها وعملها صفة اللاشرعية حسب النظام الأساسي، الذي يقول بوجوب وجود الثلثين كحد أدنى لإضفاء الشرعية على عملها.
والآن لا شرعية لاجتماعاتها مع وجود أعضاء انتهت مدتهم الفعلية والقانونية، وصولا إلى فقدانها النصاب القانوني مما يضعها قانونا في حكم الملغية والمنتهية بتغيب أكثر من ثلث أعضائها لأسباب مختلفة وفقا للمادة 14 المعدلة من النظام الأساسي للمنظمة.
التيار الإسلامي المقاوم وبناء المنظمة
وبالمحصلة، فإن حال منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها بات مقلقا في ظل التهميش الذي تعرضت له منذ سنوات طويلة، وفي ظل غياب دورها المنوط بها، بعد أن تحولت إلى منظمة ذات هياكل جوفاء لا حول ولا قوة لها.
وكل ذلك يتزامن مع انسداد أفق الحل السياسي، مما عزز من ضرورة إعادة بناء المرجعية الفلسطينية من جديد، خصوصا وأن متغيرات عدة طرأت على خريطة القوى الفلسطينية، مع نهوض قوى فلسطينية صاعدة تزحف باتجاه المواقع المتقدمة في الفعل والأداء والحضور، ونعني بهما حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
ومن هذا المنطلق فإن إعادة بناء المرجعية الوطنية الموحدة للشعب الفلسطيني بات أمرا ضروريا وملحا، خصوصا بعد الصعود الهائل لحركة حماس وتحولها إلى رقم أساسي في المعادلة الفلسطينية، التي لا يمكن الحديث عن دعوة دخولها إلى عضوية المنظمة كفصيل إضافي فقط، بل يجب أن ينظر للمسألة من زاوية أعمق تتعلق بالتبدلات الجوهرية التي طرأت على حضور وفعل وأوزان القوى في الساحة الفلسطينية.
وعليه فإن إعادة تأسيس وبناء المنظمة وكل مؤسساتها، وكذلك برنامجها الائتلافي من جديد، يتطلب بالضرورة استيعاب المتغيرات الفلسطينية الداخلية وانضواء حركتي حماس والجهاد الإسلامي في أطرها ومؤسساتها وفقا لحضورها وتأثيرها ووزنها في المجتمع الفلسطيني.